ثانوية الجولان التأهيلية المستوى : ثانية باك مادة الفلسفـــــة
ذ: الحناوي
مفهوم الغير
الاطار الشكالي
إن الانسان ليس شخصا معزولا، إنه موجود ليعيش مع الاخرين، فالآخرين يوجدون الى جانبه من اجل تحقيق غايات مشتركة. ثم إن تحليل بعض المشاعر الإنسانية كالحب والكراهية مثلا يدعونا الى الانتباه الى اهمية حضور الغير في إحداث هذه المشاعر لدى الشخص. بل يمكن القول ان أفكارنا ولغتنا وممارستنا لا تاخذ معناها إلا أذا إفترضنا حضور ذوات أخرى نتوجه إليها ونتواصل معها.
وتعتبر إشكالية الغير إشكالا فلسفيا حديثا بدأ مع هيغل في القرن 19 فاصبح الغير ينظرإليه كأنا آخر أي الآخر العاقل إنه"الأنا الذي ليس انا":إنه انا واعية تشبهني لكنها ليست أنا فهي تختلف عني.
ينتج عن هذه الدلالات ان مفهوم الغير يتضمن مفارقة غريبة تدفعنا إلى التساؤل كالتالي:
-هل وجود الغير ضروري لادراك الشخص لهويته؟ هل وجود الغير تهديد للأنا ام شرط لوجودها؟
-هل يمكن معرفة الغير؟ هل معرفة الأنا للغير ممكنة ام مستحيلة؟
-ما هي أوجه العلاقة بالغير؟ هل هي علاقة سلبية(صراع) أم إيجابية(صداقة)؟وهل العلاقة بالغير ضرورية رغم أنها تأخد بعدا سلبيا صراعيا؟
المحور الاول: وجود الغير
إشكال المحور: هل وجود الغير ضروري لإدراك الذات لذاتها؟
تصور ديكارت:
لا يعطي ديكارت أية أهمية لوجود الغير في مسألة وعي الذات ، ذلك أن فلسفة ديكارت تقوم على الكوجيتو، الذي ينطلق من شك الأنا المفكرة في جميع الموجودات مما يضعها في مقابل العالم والآخرين باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة، فتعيش بذلك الذات عزلة أنطولوجية (وجودية) مطلقة، حيث لا تحتاج إلى وساطة العالم الخارجي والآخرين لمعرفة ذاتها وإدراك هويتها. يقول ديكارت:"أنا أفكر إذن أنا موجود" بمعنى أن وجود الأنا يقيني مادام في وسعه أن يفكر ويشك في كل شيء بكل حرية. وبالتالي فالذات المفكرة مستقلة تماما عن وجود الغير أو الذوات الأخرى ، وجودها لا يتوقف على وجود الغير بل العكس يصبح وجود الغير متوقف على حكم الأنا المفكرة.
نستنتج إذن من خلال تصور ديكارت، أن الأنا وحيدة مستقلة- يقول "أنا وحدي موجود- لأن وجودها وحده اليقيني والضامن لجميع المعارف، أما وجود الغير يظل وجودا افتراضيا قابلا للشك و الإحتمال. هكذا يعتبر وجود الغير غير ضروري لإدراك الذات لذاتها، لأن الوعي هو حضور الذات أمام نفسها دون الحاجة إلى ما هو خارج الذات. يقول ديكارت: "كل موضوعات معرفتي هي أفكار في عقلي".
تصور هيغل
ضدا على الموقف الديكارتي الذي يلغي ضرورة وجود الغير بالنسبة للذات، أقام هيغل فلسفة للوعي تعطي حضورا متميزا للغير، ذلك أن الوعي الذي تشكله الذات عن نفسها لا يتحقق كوعي منغلق على نفسه متسم بالسكون و مفارق للعالم والآخرين، بل إن الوعي شيء ينمو ويتطور في علاقة بالغير والعالم الخارجي. فالإنتقال إلى مستوى الوعي بالذات يقتضي سعي الإنسان الى الإعتراف به من طرف الغير،غير أن هذا الإعتراف ليس هبة يمنحها الغير للأنا، بل ينتزع عبر صراع بين الطرفين حتى استسلام احد الطرفين، بتفضيله الحياة على الموت، وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولية علاقة السيد بالعبد وهذا معناه أن الأنا لاتكتسب وعيا بالذات إلا على حساب وعي آخر بالذات(الغير): فالسيد بحاجة إلى عبد يعترف بنفسه كعبد ويعترف به كسيد.
إن الموقف الهيغلي إذن يؤكد انه رغم ان العلاقة بالغير هي علاقة صراع، إلا أنها تبقى ضرورية لادراك الذات لذاتها.
تصور سارتر
عكس التصور الديكارتي يدعم سارتر الموقف الهيغلي مؤكدا بدوره على ضرورة وجود الغير بالنسبة للذات لكن بطريقة وجودية مغايرة لفلسفة هيغل: حيث انطلق سارتر من تحليل الخجل كشعور غير مباشر بالذات موضحا ان الخجل في تركيبه قصدي أي انه وعي بشيء ما وهذا الشيء هو الذات، غير أن الخجل كوعي بالذات لا يتحقق عبر التأمل الباطني المجرد بل يشترط وجود الغير، فمثلا عندما أقوم بحركة غير لائقة، لا احكم على نفسي ولا ألومها بل أعيش تللك الحركة بتلقائية وحرية، ولكن عندما اكتشف ان احدهم يراقبني، أخجل، اخجل من نفسي لاني في تلك اللحظة اتحول إلى موضوع فأدرك ماقمت به من حركة سوقية.لأنه لولا وجود الغير، لما أصبح بإمكاني أن أصدر حكما على نفسي كما لو كانت موضوعا.
يرى سارتر إذن ان وجود الغير ضروري لكي أتوصل الى اي حقيقة كيفما كانت حول ذاتي إذ لابد لي ان أمر عبر الغير. يقول سارتر:"إن الآخر لا غنى عنه لوجودي، كما لاغنى عنه في معرفتي لنفسي"
ورغم أن الغير يشكل تهديدا لحرية الأنا وتلقائيتها، إلا أن وجوده ضروري لوعي الشخص لذاته، يقول سارتر "أنا في حاجة إلى الغير لأدرك إدراكا كاملا كل بنيات وجودي".
خلاصة تركيبية
نخلص مما سبق أنه إذا كان ديكارت يرى أن الذات الواعية لاتحتاج إلى وجود الغير لادراك نفسها،فإن كل من هيغل وسارتر يوجدان على الطرف النقيض من ذلك،حيث يتفقان على أهمية حضور الغير بالنسبة للشخص:فوعي الذات لايتحقق كوعي منغلق يطبعه التأمل،بل إن" الوعي قصدي" كما قال هوسرل، اي أن" الشعور هو شعوربشيءما."وعليه فالعالم والاخرين هما الوسيط الذي لاغنى عنه لوعي الذات.
لكن ان كانت معرفة الأنا لذاتها تمر عبر الغير، فهل يعني ذلك أن معرفة الغير ممكنة؟
المحور الثاني: معرفة الغير
إشكال المحور:هل يمكن معرفة الغير؟
تصور جون بول سارتر:
إن افتراض قابلية الغير للمعرفة، يترتب عنه مباشرة أن الغير موضوع objet . أي أن إخضاع الغير للمعرفة،أو نشاط الأنا المفكرة، يحول الغير إلى مجرد شيء يفتقر إلى صفات الأنا كالوعي والحرية والإرادة والتلقائية. غير أن الغير كما يعرفه سارتر هو الأنا الذي ليس أنا أي أنه ليس موضوعا بل هو أنا واعية مثلي لكنها تختلف عني لأنها ليست أنا.
فهل يمكن النظر إلى الغير بوصفه ذاتا واعية ؟ يرى سارتر أن الغير لا يتجلى للأنا إلا بإعتباره شيئا في ذاته أي جسما خارجيا بالنسبة إلى جسم الأنا، كما هو الحال بالنسبة للاشياء الاخرى التي لاتربط بينها أية صلة،مما يعني أن هناك عدم أو هوة تفصل بين الأنا والغير. ومن تم فالكيفية الوحيدة التي يمكن أن ينكشف الغير بها لي، هي ان يتجلى لمعرفتي كموضوع. ذلك أن الأنا الواعية لا يمكن الوصول إليها،لأنها تختفي بمجرد النظر إلى الغير، لان النظر le regard إلى الغير يشيئه. فحينما يكون إنسان وحده (طفل مثلا) يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه الى وجود أحد آخر ينظر إليه أو يراقبه، حتى تختفي تلقائيته ويتوقف عن الحركة، ولعل هذا ما دفع سارتر إلى القول: "الجحيم هو الآخرون".
نستنتج إذن أن معرفة الغير تظل مستحيلة لان العلاقة المعرفية بالغير تصبح علاقة تشيء وإستيلاب بحيث تنتفي إمكانية معرفة الغير كأنا آخر، أي كذات واعية حرة ومريدة.
تصور موريس ميرلوبونتي
إذا كان سارتر يقول بإستحالة معرفة الغير كأنا آخر،فإن ميرلوبونتي ينتقد الفكرة القائلة بان العلاقة بين الانا والغير قائمة على التشييء والنفي ،فالانا لا يحول الغير الى موضوع كما أن الغير لايحول الأنا الى موضوع ولا ينفيه إلا حينما تتقوقع الأنا المفكرة على نفسها. وهذه الوضعية يمكن تجاورها عندما يدخل الأنا والغير في علاقة تواصل واعتراف متبادل. فحينما تخرج الذات من أناها المفكرة وتنفتح على الغير ناظرة إليه نظرة إنسانية تتقبل وتتفهم أفعاله تصبح معرفة الغير في هذه الحالة ممكنة. وهذا ما وضحه ميرلوبونتي قائلا انه إذا ما ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينطق بعد بكلمة، فإني لا استطيع التعرف عليه ولكن ما أن ينطق بكلمة حتي يكف عن التعالي علي : هو ذا صوته هي ذي أفكاره ها قد بدأت أعرف من يكون.
ولكن هل يمكن للتواصل مع الغير أن يحل معضلة معرفة الغير؟
ان القول بان التواصل مع الغير هو السبيل لمعرفته يبقى قولا نسبيا، لأنه حتى في حالة تحقيق تواصل وجداني بين الأنا و الغير، فان هذا التواصل لايصل الى مستوى المشاركة الفعلية للحالات الشعورية التي يعيشها الغير: فأنا مثلا أستطيع أن أشاطر صديقي حزنه أو فرحه ولكني لا أملك أن أحيا نفس حالته النفسية المترتبة عن الحزن أو الفرح. ، إذ أشارك الغير في مشاعره على نحو خارجي فقط، فتصبح بذلك معرفتي بالغير معرفة خارجية لان الغير يتبدى للانا كجسد تختفي وراءه الأفكار والمشاعر والنوايا ومادامت النفس المفكرة هي جوهر الإنسان، فان معرفة الغير كأنا تبدو مستحيلة.
ولكن هل من الضروري أن يغوص الأنا في اعماق نفس الغير كي يشكل عنه معرفة؟ ألا يمكن فهم سلوكات الغير وما يصدر عنه من تعابير انطلاقا من قياسها على ماتصدره الذات من سلوكات؟
إذا سلمنا بأن الغير مشابه للأنا،ألايمكن الإستدلال بالمماثلة لمعرفة الغير؟ مما يتيح إمكانية معرفة الغير من خلال العودة إلى الذات وقياس أفعالها على أفعال الغير وتعابيره، حيث ندرك مباشرة من ابتسامة إنسان مثلا سروره، وفي احمرار وجهه خجله..إلخ.
إلا أن الإستدلال بالمماثلة لتفسير أفعال الغير انطلاقا من افعال الذات يمكن أن يفضي بنا إلى نوع من الإسقاط، أي إسقاط ما ينتمي الى الأنا على الغير، مما يغيب الإختلاف بين الأنا والغير. ثم أن تفسيرات سلوكات الغير بمماثلتها مع سلوكات الذات أمر يقتضي معرفة الذات معرفة تامة، فهل يستطيع الأنا معرفة ذاته فعلا؟
المحور الثالث: العلاقة بالغير إشكال المحور:ان العلاقة بالغير أعقد وأغنى من أن تخترل الى علاقة معرفة،فهي علاقة مركبة يتدخل فيها المعطى الأخلاقي والعاطفي الوجداني مما يجعلها تختلف بإختلاف الغير نفسه غريبا ام قريبا.فما هي اوجه العلاقة بالغير؟ هل هي علاقة صراع ام صداقة ومحبة؟
العلاقة السلبية بالغير
إن الغير الغريب يوحي عادة بمشاعر النفور و الخوف والكراهية والعداء ومن تم يواجه الغريب بالإقصاء والتهميش او المحاربة أحيانا ويتشخص في الأجنبي والدخيل والمهاجر المختلف ثقافيا وعرقيا ودينيا.
وبالعودة الى التصور الهيغلي نستطيع القول ان العلاقة بالغير هي علاقة صراع لاتقوم على أية صداقة اومحبة او حتى شفقة وإنما على مبدأ الهيمنة والإستعباد،فالأنسان إما سيدا وإما عبدا، وهو لايخرج عن هذه العلاقة التراتبية القائمة على الصراع من أجل نيل الإعتراف و فرض الهيمنة باستسلام احد المتصارعين بتفضيله الحياة على الموت معترفا بالآخر كسيد وبالذات كعبد لذلك السيد
هكذا فالإنسان يتشكل وعيه بالذات على حساب الأخر أي على حساب اعتراف الأخر به .
ولعل هذا ما أكده سارتر حيث انه يرى ان العلاقة بالغير هي علاقة سلبية يطبعها التشييء والنفي ولذا يقول:"الجحيم هوالآخرون" بمعنى أن الغير هو بمثابة عدو خفي يفقد الذات حريتها وتلقائيتها ويحولها الى مجرد موضوع فاقد لمقومات الحرية والقيمة والإرادة.
وتجدر الإشارة إلى أن كل من سارتر و هيغل يعتبران أن علاقة الأنا بالغير رغم سلبيتها تظل ضرورية جدا بالنسبة للذات.
العلاقة الإيجابية بالغير
اذا كان هيغل وسارتر يؤكدان على ان العلاقة بالغير هي علاقة صراع و تشيء، فإن ميرلوبونتي يرى عكس ذلك:إذ يؤكد أنه لا يمكن فهم علاقة الأنا بالغير إلا من خلال التعاطف و التواصل سواء كان تواصلا مباشرا أو غير مباشر .فالغير لا ينظر إليه كموضوع بل كإنسان يجب ان تفهم وتقبل أفعاله. فالتواصل يقوم مقام العلاقة الموضوعية التشيئية وعن طريق التواصل يتشكل اعتراف بهما معا وليس احدهما ضد الاخر فينتفي العدم الفاصل بينهما. ثم إن من يتفحص الوجود البشري يجد انه وجود مع الذوات الاخرى كما يرى هايدغر فنحن نتقاسم العالم مع الآخرين ووجودنا هنا هو وجود مع الغير ولأجله ومن تم فعلاقة الانا بالغير هي علاقة وجود و مشاركة.
وفي نفس الإتجاه أكد الفيلسوف اليوناني ارسطو أن الإنسان بما هو مدني بطبعه يميل الى الانفتاح على الأخرين قصد بناء مجتمع انساني يحقق السعادة والفضيلة هكذا تقوم بين الناس علاقات إنسانية نبيلة تسمى الصداقة ، فالإنسان مهما كانت مرتبته أو سنه هو في حاجة الى اصدقاء لذلك فماهية العلاقة التي تربط الانسان بالآخرين إنما هي الصداقة التي تنقسم الى ثلاث أنواع : صداقة المنفعة ، صداقة المتعة و صداقة الفضيلة التي يعتبرها ارسطو الصداقة الحقيقية لانها قائمة على الخير.
وترد جوليا كريستيفا بشدة على أولائك الذين يقولون بان الغير الأجنبي يجب نبذه ومحاربته لأنه يشكل خطرا على تماسك الجماعة وثقافتها،بقولها "ان الغريب يسكننا على نحو غريب"بمعنى أن الغريب ليس دائما الأجنبي بل الغرابة قد تتشخص في علاقتنا بذاتنا، بل هي أحد مكوناتنا النفسية
قد تدخل في شكل ماض لاشعوري يعاود الظهور في شكل غرابة مخيفة.و لذلك لاينبغي ـ حسب كريستيفا ـ إقصاء الغير بل ينبغي إدماجه و التعامل معه في إطار الإحترام والحوار والتسامح لانه كائن مشابه لنا.
احسن استاذ واروع شكرا استاذ جزاك الله خير
ردحذفبحال استاذ سي الحناوي قليل بزاف