الخميس، 31 مايو 2012

مفهوم الواجب


ذ: الحناوي
                                                  مفهوم الواجب

الاطار الاشكالي:
ليست الدولة بقوانينها ومؤسساتها هي الوسيلة الوحيدة لامتصاص العنف من المجتمع وتقنينه، فقد شكلت الاخلاق احدى أهم الوسائل الموجهة للسلوك الانساني وذلك من خلال حث الانسان على فعل الخير وتجنب الشر والأذى. فسلوكات الانسان انما تخضع في معظمها لوعي عملي اخلاقي باعتباره قواعد سلوك تهدف الى تخليص الانسان من  قبضة اهوائه والسمو به على باقي الموجودات. فإذا كان الوعي الاخلاقي هو الذي يضبط سلوك الانسان طبقا لقوانين أخلاقية صارمة، فلابد أن وراء هذا الوعي سلطة ما هي ما يفسر الطابع الالزامي للفعل الأخلاقي بوصفه شعورا بالواجب. ويعرف معجم لالاند مفهوم الواجب بأنه الالتزام الاخلاقي الذي يرتكز على النداء الباطني بمنأى عن أية قاعدة خارجية كالدين والقانون . مما يدفعنا الى طرح الاشكالات التالية:
-  هل الواجب صادر عن ارادة حرة ام عن نوع من الاكراه والإلزام؟
- على أي اساس يقوم الوعي الأخلاقي؟هل على الفطرة والطبيعة ام  على التربية والاكتساب؟
- ما الذي يحكم الواجب ضمير الفرد ام ضمير المجتمع؟ بعبارة اخرى هل الواجب التزام داخلي لما تشرعه الذات أم إلزام خارجي مصدره المجتمع؟

المحور الأول : الواجب و الإكراه
إشكال المحور: هل الواجب صادر عن ارادة حرة ام عن اكراه؟

تصور كانط
يرى كانط أن الواجب  فعل إكراه نقوم به احتراما للقانون الأخلاقي الذي يشرعه العقل العملي، فالواجب أمر قطعي يفرض نفسه على الذات لتلتزم  بفعل ما حتى ولو تعارض مع ميولاتها وأهوائها، وبذلك فالواجب التزام داخلي صادر عن العقل والارادة الخيرة للذات الحرة، ولايرتبط بأي مبدأ خارجي أو غاية منفعية. وبهذه الطريقة يصبح الواجب إكراها حرا يتخد صفة الأمر القطعي المطلق، و هو ما يختلف عن الأمر الأخلاقي المشروط  كأن نقول مثلا "إفعل كذا لتنال كذا" أو "لاتسرق كي لاتدخل السجن" وهو ما يصنفه كانط خارج  خانة الواجب لما فيه من مساومة وغياب للارادة الخيرة. ذلك أن الفعل الأخلاقي لايعتبر واجبا فقط لانه يطابق القانون بل لانه يتصف بصفة الإلزام كضرورة  تشعر بها الذات إزاء تشريعها الخاص الصادر عن ارادة خيرة.
تصور غويو
على النقيض من ذلك يرى غويو الواجب شعور طبيعي بالقدرة على فعل الخير، وليس شعورا بضرورة او ضغط، إن القدرة على فعل شيء عظيم هي التي تنتج نوعا من الواجبات، فمثلا القدرة على العمل تؤدي الى الشعور بوجوب العمل. وهكذا فالواجب الأخلاقي يعود الى القانون الطبيعي بوصفه ميلا غريزيا حرا نحو الفعل ، فالنبتة مثلا لاتستطيع أن تمتنع عن النمو والازدهار لانه واجبها وطبيعتها.
 وفي نفس الاتجاه تقريبا يسير روسو مؤكدا ان الواجب احساس فطري عفوي يوجد في اعماق كل نفس بشرية يدفعها نحو الفضيلة والخير.
تصور هيوم
يميز هيوم بين نوعين من الواجبات: واجبات طبيعية حرة ترتبط بميل طبيعي خال من اي اكراه ويتمثل ذلك مثلا في حب الأطفال وأو شكر المحسنين أو العطف على المعوزين.
وواجبات الزام تتمثل في واجبات المواطن تجاه المجتمع عبر احترام القانون كسلطة تكبح الغرائز و الميول الذاتية. بهذا المعنى يكون الواجب إلزاما ضروريا لحفظ استمرارية المجتمع.

المحور الثاني  الوعي الأخلاقي
إشكال المحور: هل الوعي فطري ام مكتسب؟
تصور ج ج روسو
إذا كان كانط يرجع الوعي الأخلاقي الى ما يسميه بالعقل العملي الصادر عن الارادة  الخيرة، فإن روسو يسير في نفس الاتجاه مؤكدا أن الوعي الأخلاقي معطى فطري محايث للذات، فهو احساس يدفعنا نحو الخير بشكل عفوي، حيث "يوجد في أعماق كل نفس انسانية مبدأ فطري للعدالة والفضيلة" يدفع الانسان بالفطرة الى فعل ما يعرف انه خير، ورغم أن الانسان يعيش في مجتمع يتأثر بثقافته وقيمه، فإن الوعي الأخلاقي- حسب روسو- يظل إحساسا غريزيا داخليا يرفض كل ماهو لا اخلاقي. يقول روسو:" أيها الوعي انت الغريزة المعصومة في تمييزها بين الخير والشر...وبدونك لن أشعر في ذاتي بما يجعلني أسمو فوق مرتبة البهائم".
تصور ابن مسكويه
على النقيض من تصور روسو يرى ابن مسكويه أن أصل الوعي الأخلاقي لايعود الى الطبيعة والفطرة التي جبل عليها الانسان، لانه لو كانت الأخلاق فطرية لبقي الانسان على حاله فظا  دون تهذيب. ولو ترك الانسان يعيش بمقتضى هواه دون تربية فلن يتحصل منه غير الطباع الذميمة. لذلك فليس شيء من الأخلاق طبيعيا وانما اصل الوعي الأخلاقي هو التربية والتأذيب والموعظة. ويضيف ابن مسكويه ان الناس مراتب في الفضيلة منهم الخير والشرير والسهل والعسير... ولذلك فالطباع إذا أُهملت دو تهذيب وتقويم نشأ الإنسان على طباعه الفطرية  الطفولية القائمة على اللذة والشره والغضب وغيرها من الأخلاق المذمومة.
تصور فرويد
ان التأكيد إذن على فطرية الوعي الاخلاقي تأكيد يتجاهل الظروف والمحددات الإجتماعية والنفسية للإنسان. مماجعل فرويد يتجاوز هذة الاطروحة معتبر أن هنا علاقة وثيقة بين الضمير الأخلاقي والسلطة الخارجية المتمثلة سلطة التربية والاعراف والتقاليد. ومن المعلوم أن فرويد قسم الجهاز النفسي الى ثلات هيئات: الهو وهو جزء فطري يختزن الكل الرغبات الجنسية والعدوانية. الأنا كنقطة موازنة بين الهو و الأنا الأعلى.  والانا الأعلى الذي يمثل مجمل التقاليد والعادات والقواعد الأخلاقية التي تشربها الطفل واستدمجها عبر التربية.
من هذا المنطلق يكون الحديث عن الضمير الاخلاقي متوقف - حسب فرويد - على الأنا الأعلى بوصفه سلطة  أخلاقية(ذات أصل خارجي) بها تقيم الذات سلوكاتها وقراراتها.


المحور الثالث : الواجب والمجتمع
إشكال المحور: إن العلاقة التي يمكن افتراضها بين الواجب الاخلاقي كإلتزام ذاتي والمجتمع كسلطة معيارية خارجية، لاتفهم إلا عبر طرح الاشكال التالي: هل الواجب الأخلاقي إلتزام نابع عن ضمير الفرد أم التزام بما يمليه المجتمع من قيم قواعد أخلاقية؟  بعبارة أخرى هل الواجب يحكمه ضمير الفرد أم ضمير المجتمع؟

تصور كانط
لقد عالج كانط مسألة الواجب معالجة دقيقة كان الهدف منها التأسيس الفعلي والكوني لمفهوم الفعل الاخلاقي بعيدا عن تلك التصورات التي كانت تربطه بمصلحة ما أو ربح، أو كانت ترى أن غاية الفعل الأخلاقي هي ما يحدد قيمته انطلاقا من آثاره النفعية، لذلك اهملت هذه التصورات الحديث عن الواجب كغاية في ذاته بوصفه إلتزاما داخليا بما تشرعه الذات  بناء على مايمليه العقل العملي كمعطى كوني مطلق ينأى عن أي توجيه خارجي كالمجتمع، ذلك أن الإقتصار في تحديد الواجبات على ما يمليه المجتمع قد يؤدي الى قيم نسبية تختلف باختلاف المجتمعات ومصالحها  مما يؤدي الى هدم الأخلاق بوصفها قيما انسانية كونية مطلقة.
نخلص إذن ان الواجب حسب كانط يحكمه ضمير الفرد كمبدأ ذاتي  يعبر عن التزام غير مشروط بأية غايات او مصالح.

تصور دوركايم
لم يعد الواجب مع دوركايم مجرد معطى متعالي مطلق، وانما هو مرتبط بعلاقة الفرد بالمجتمع الذي  يفرض نظامه الأخلاقي فرضا. و يضيف  دوركايم أنه ليس هناك فعل أخلاقي خالص تم القيام به فقط لانه واجب، بل يكون من الضروري ان هذا الفعل مدفوعا بغاية اجتماعية- تتجاوزإرادة الأفراد- اعتبرته فعلا جيدا ومرغوبا فيه بطريقة ما.
ويؤكد دوركايم أن المجتمع  سلطة قاهرة تتحكم في ضمير الافراد، وتكوّن وعيهم الأخلاقي  عبر التنشئة الاجتماعية التي تبث فيهم تلك المشاعر التي تملي عليهم مايفعلون بلهجة الواجب. ولما كان الحال كذلك فالواجب لاينبع عن ارادة حرة واعية وانما عن ضمير وعي جمعي هو المتحكم في سلوك الفرد. ومن تم فالمجتمع يتعالى على ارادة الافراد، ويفرض عليهم قيما ومعايرا اخلاقية تتجاوزهم فيحقق الافراد غاية المجتمع لاغاية ذواتهم حتى وإن بدى صوت الواجب نابعا من داخل الذات. يقول دوركايم بهذا الصدد: "فضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولايعبر إلا عنه، واذا تكلم ضميرنا، فانما يردد صوت المجتمع فينا".
تركيب
يتضح اذن ان المجتمع هو المصدر الحقيقي للواجب الأخلاقي، لأن سلطته على الافراد ترسخ في وعيهم عبر التربة ما يجب القيام به من واجبات.ومن تم لانستطيع انكار أهمية المجتمع ودوره في تحديد الواجبات الأخلاقية، غير ان هذا لا يعني انغلاق المجتمع على نفسه دون الانفتاح على الواجبات الانسانية الكونية، وهو ما دعى اليه هنري برغسون مشددا على ضرورة الانعتاق من من السلطة الاخلاقية المتعالية التي يمارسها المجتمع على الافراد وطالب بما سماه بالواجب الاخلاقي الكوني الذي يتعدى الاخلاق المنغلقة  التي يكرسها المجتمع،بوصفها أخلاقا نسبية تتماشى مع مصلحة أفراد المجتمع الواحد مما قد يفقد الاخلاق قيمتها الانسانية المطلقة.